بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في سورة يوسف (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ )(108)
قل لهم -أيها الرسول-: هذه طريقتي, أدعو إلى عبادة الله وحده, على حجة من الله ويقين, أنا ومن اقتدى بي, وأنزِّه الله سبحانه وتعالى عن الشركاء, ولستُ من المشركين مع الله غيره.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في كتابه القول المفيد على كتاب التوحيد
وقول الله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة) الآية [يوسف: 108]. هذا الترتيب الذي ذكره المؤلف من أحسن ما يكون، لأنه لما ذكر توحيد الإنسان بنفسه ذكر دعوة غيره إلى ذلك، لأنه لا يتم الإيمان إلا إذا دعا إلى التوحيد، قال تعالى: (والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) [سورة العصر]. فلا بد مع التوحيد من الدعوة إليه، وإلا، كان ناقصاً، ولا ريب أن هذا الذي سلك سبيل التوحيد لم يسلكه إلا وهو يرى أنه أفضل سبيل، وإذا كان صادقاً في اعتقاده، فلابد أن يكون داعياً إليه، والدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله من تمام التوحيد، ولا يتم التوحيد إلا به.
قوله: (قل هذه سبيلي)، المشار إليه ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الشرع عبادة ودعوة إلى الله. سبيلي: طريقي.
قوله: (أدعو)، حال من الياء في قوله: (سبيلي)، ويحتمل أن تكون استئنافاً لبيان تلك السبيل.
وقوله: (إلى الله)، لأن الدعاة إلى الله ينقسمون إلى قسمين: 1- داع إلى الله. 2- داع إلى غيره.
فالداعي إلى الله تعالى هو المخلص الذي يريد أن يوصل الناس إلى الله تعالى.
والداعي إلى غيره قد يكون داعياً إلى نفسه، يدعو إلى الحق لأجل أن يعظم بين الناس ويحترم، ولهذا تجده يغضب إذا لم يفعل الناس ما أمر به، ولا يغضب إذا ارتكبوا نهياً أعظم منه، لكن لم يدع إلى تركه. وقد يكون داعياً إلى رئيسه كما يوجد في كثير من الدول من علماء الضلال من علماء الدول، لا علماء الملل، يدعو إلى رؤسائهم. من ذلك لما ظهرت الاشتراكية في البلاد العربية قام بعض علماء الضلال بالاستدلال عليها بآيات وأحاديث بعيدة الدلالة، بل ليس فيها دلالة، فهؤلاء دعوا إلى غير الله.
ومن دعا إلى الله ثم رأى الناس فارين منه، فلا ييأس، ويترك الدعوة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "انفذ على رسلك، فوالله، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم"(1)، يعني: أن اهتداء رجل واحد من قبائل اليهود خير لك من حمر النعم، فإذا دعا إلى الله ولم يجب، فليكن غضبه من أجل أن الحق لم يتبع، لا لأنه لم يجب، فإذا كان يغضب لهذا، فمعناه أنه يدعو إلى الله، فإذا استجاب واحد، كفى، وإذا لم يستجب أحد، فقد أبرأ ذمته أيضاً، وفي الحديث: "والنبي وليس معه أحد"(1). ثم إنه يكفي من الدعوة إلى الحق والتحذير من الباطل أن يتبين للناس أن هذا حق وهذا باطل، لأن الناس إذا سكتوا عن بيان الحق، وأقر الباطل مع طول الزمن، ينقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً.
قوله: (على بصيرة)، أي: علم، فتضمنت هذه الدعوة الإخلاص والعلم، لأن أكثر ما يفسد الدعوة عدم الإخلاص، أو عدم العلم، وليس المقصود بالعلم في قوله (على بصيرة) العلم بالشرع فقط، بل يشمل، العلم بالشرع، والعلم بحال المدعو، والعلم بالسبيل الموصل إلى المقصود، وهو الحكمة. فيكون بصيراً بحكم الشرع، وبصيراً بحال المدعو، وبصيراً بالطريق الموصلة لتحقيق الدعوة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب"(2). وهذه ليست كلها من العلم بالحكم الشرعي، لأن علمي أن هذا الرجل قابل للدعوة باللين، وهذا قابل للدعوة بالشدة، وهذا عنده علم يمكن أن يقابلني بالشبهات أمر زائد على العلم بالحكم الشرعي، وكذلك العلم بالطرق التي تجلب المدعوين كالترغيب بكذا والتشجيع، كقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلاً، فله سلبه"(3)، أو بالتأليف، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم في غزوة حنين إلى مئة بعير(4)، فهذا كله من الحكمة، فالجاهل لا يصلح للدعوة، وليس محموداً وليست طريقته طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح.
قوله: (أنا ومن اتبعني)، ذكروا فيها رأيين: الأول: "أنا" مبتدأ، وخبرها "على بصيرة"، "ومن اتبعني" معطوفة على "إنا" أي: أنا ومن اتبعني على بصيرة، أي: في عبادتي ودعوتي.
الثاني: "أنا" توكيد للضمير المستتر في قوله: "أدعو"، أي: أدعو أنا إلى الله ومن اتبعني يدعو أيضاً، أي: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله ويدعو من اتبعني، وكلانا على بصيرة.
قوله: (وسبحان الله)، أي: أن أكون أدعو على غير بصيرة! وإعراب "سبحان": مفعول مطلق عامله محذوف تقديره أسبح. قوله: (وما أنا من المشركين)، محلها مما قبلها في المعنى توكيد، لأن التوحيد معناه نفي الشرك.